سورة الفرقان - تفسير تفسير ابن عطية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الفرقان)


        


هذه الآية رد على كفار قريش في استبعادهم أن يكون من البشر رسول وقولهم {مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق} [الفرقان: 7] فأخبر الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم وأمته أنه لم يرسل قبل في سائر الدهر نبياً إلا بهذه الصفة، والمفعول ب {أرسلنا} محذوف يدل عليه الكلام تقديره رجلاً أو رسلاً، وعلى هذا المحذوف المقدر يعود الضمير في قوله {إلا إنهم} وذهبت فرقة إلى أن قوله {ليأكلون الطعام} كناية عن الحدث، وقرأ جمهور الناس {ويَمْشون} بفتح الياء وسكون الميم وتخفيف الشين، وقرأ علي وعبد الرحمن وابن مسعود {يُمَشَّون} بضم الياء وفتح الميم وشد الشين المفتوحة بمعنى يدعون إلى المشي ويحملون عليه، وقرأ أبو عبد الرحمن بضم الياء وفتح الميم وضم الشين المشددة وهي بمعنى يمشون ومنه قول الشاعر: [الطويل]
أمشي بأعطان المياه وأبتغي *** قلائص منها صعبة وركوب
ثم أخبر عز وجل أن السبب في ذلك أن الله تعالى أراد أن يجعل بعض العبيد {فتنة} لبعض على العموم في جميع الناس مؤمن وكافر، فالصحيح فتنة للمريض، والغني فتنة للفقير، والفقير الشاكر فتنة للغني، والرسول المخصوص بكرامة النبوة فتنة لأشراف الناس الكفار في عصره، وكذلك العلماء وحكام العدل، وقد تلا ابن القاسم هذه الآية حين رأى أشهب، والتوقيف ب {أتصبرون} خاص للمؤمنين المحقين فهو لأمة محمد صلى الله عليه وسلم كأنه جعل إمهال الكفار فتنة للمؤمنين أي اختباراً ثم وقفهم هل يصبرون أم لا، ثم أعرب قوله {وكان ربك بصيراً} عن الوعد للصابرين والوعيد للعاصين، ثم أخبر عن مقالة الكفار {لولا أنزل علينا الملائكة} الآية، وقوله {يرجون} قال أبو عبيدة وقوم معناه يخافون والشاهد لذلك قول الهذلي: [الطويل]
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها *** وخالفها في بيت نوب عوامل
قال القاضي أبو محمد: والذي يظهر لي أن الرجاء في هذه الآية والبيت على بابه لأن خوف لقاء الله تعالى مقترن أبداً برجائه، فإذا نفي الرجاء عن أحد فإنما أخبر عنه أنه مكذب بالبعث لنفي الخوف والرجاء، وفي ذكر الكفار بنفي الرجاء تنبيه على غبطة ما فاتهم من رجاء الله تعالى، وأما بيت الشعر المذكور فمعناه عندي لم يرج دفعها ولا الانفكاك عنها فهو لذلك يوطن على الصبر ويجد في شغله، ولما تمنت كفار قريش رؤية ربهم أخبر تعالى عنهم أنهم عظموا أنفسهم وسألوا ما ليسوا به بأهل، {وعتوا}، معناه صعبوا عن الحق واشتدوا، ويقال عتو وعتي على الأصل، وعتي معلول باستثقال الضم على الواو فقلبت ياء ثم كسر ما قبلها طلب التناسب.


المعنى في هذه الآية أن الكفار لما قالوا {لولا أنزل علينا الملائكة} [الفرقان: 21]، أخبر الله تعالى أنهم {يوم يرون الملائكة} إنما هو يوم القيامة، وقد كان أول الآية يحتمل أن يريد يوم تفيض أرواحهم، لكن آخرها يقتضي أن الإشارة إلى يوم القيامة، وأمر العوامل في هذه الظروف بين إذا تأمل فاختصرناه لذلك، ومعنى هذه الآية أن هؤلاء الذين تمنّوا نزل الملائكة لا يعرفون ما قدر الله في ذلك فإنهم {يوم يرون الملائكة} هو شر لهم و{لا بشرى} لهم بل لهم الخسار ولقاء المكروه و{يومئذ}، خبر {لا بشرى} لأن الظروف تكون إخباراً عن المصادر.
الضمير في قوله {ويقولون}، قال الحسن وقتادة والضحاك ومجاهد هو ل {لملائكة}، المعنى وتقول الملائكة للمجرمين {حجراً محجوراً} عليكم البشرى، أي حراماً محرماً. والحجر الحرم ومنه قول المتلمس جرير بن عبد المسيح: [البسيط]
حنت إلى النخلة القصوى فقلت لها *** حجر حرام الا تلك الدهاريس
وقال مجاهد أيضاً وابن جريج إن الضمير في قوله {ويقولون} هو للكفار المجرمين قال ابن جريج كانت العرب إذا كرهوا شيئاً قالوا حجراً، قال مجاهد {حجراً} عوذاً، يستعيذون من الملائكة.
قال الفقيه الإمام القاضي: ويحتمل أن يكون المعنى ويقولون حرام محرم علينا العفو، وقد ذكر أبو عبيدة أن هاتين اللفظتين عوذة للعرب يقولها من خاف آخر في الحرم أو في شهر حرام إذا لقيه وبينهما ترة.
قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا المعنى هو مقصد بيت المتلمس الذي تقدّم، أي هذا الذي حننت إليه ممنوع. وقرأ الحسن وأبو رجاء {حُجراً} بضم الحاء، والناس على كسرها، ثم أخبر تعالى عما يأتي عليه قضاؤه وفعله فقال حكاية عن يوم القيامة {وقدمنا} أي قصد حكمنا وإنفاذنا ونحو هذا من الألفاظ اللائقة، وقيل هو قدوم الملائكة أسنده إليه لأنه عن أمره، وحسنت لفظة {قدمنا} لأن القادم على شيء مكروه لم يقدره ولا أمر به مغير له مذهب، وأما قول الراجز:
وقدم الخوارج الضلال ***
إلى عباد ربنا فقالوا:
إن دماءكم لنا حلال ***
فالقدوم فيه على بابه، ومعنى الآية وقصدنا إلى أعمالهم التي هي في الحقيقة لا تزن شيئاً إذ لا نية معها فجعلناها على ما تستحق لا تعد شيئاً وصيرناها {هباء منثوراً} أي شيئاً لا تحصيل له، والهباء هي الأجرام المستدقة الشائعة في الهواء التي لا يدركها حس إلا حين تدخل الشمس على مكان ضيق يحيط به الظل كالكوة أو نحوها، فيظهر حينئذ فيما قابل الشمس أشياء تغيب وتظهر فذلك هو الهباء، ووصفه في هذه الآية ب {منثور}، ووصفه في غيرها بـ منبث، فقالت فرقة هما سواء، وقالت فرقة المنبث أرق وأدق من المنثور لأن المنثور يقتضي أن غيره نثره كسنابك الخيل والريح أو هدم حائط أو كنس ونحو ذلك، والمنبث كأنه هو انبث من دقته، وقال ابن عباس الهباء المنثور، ما تسفي به الرياح وتبثه، وروي عنه أنه قال أيضاً الهباء الماء المهراق والأول أصح والعرب تقول أهبات الغبار والتراب ونحوه إذا بثثته وقال الشاعر [الحارث بن حلزة اليشكري]: [الخفيف]
وترى خلفها من الربع والوق *** ع منيناً كأنه أهباء
ومعنى هذه الآية جعلنا أعمالهم لا حكم لها ولا منزلة، ثم أخبر عز وجل بأن مستقر أهل الجنة {خير} من مستقر أهل النار، وجاءت {خير}، هاهنا للتفضيل بين شيئين لا شركة بينهما، فذكر الزجاج وغيره في ذلك أنه لما اشتركا في أن هذا مستقر وهذا مستقر فضل الاستقرار الواحد.
قال القاضي أبو محمد: ويظهر لي أن هذه الألفاظ التي فيها عموم ما يتوجّه حكمها من جهات شتى، نحو قولك أحب وأحسن وخير وشر يسوغ أن يجاء بها بين شيئين لا شركة بينهما، فتقول السعد في الدنيا أحب إليّ من الشقاء إذ قد يوجد بوجه ما من يستحب الشقاء كالمتعبد والمغتاظ وكذلك في غيرها، فإذا كانت أفعل في معنى بين أن الواحد من الشيئين لا حظ له فيه بوجه فسد الإخبار بالتفضيل به، كقولك الماء أبرد من النار، ومن هذا إنك تقول في ياقوته ومدرة وتشير إلى المدرة هذه أحسن وخير وأحب وأفضل من هذه، ولو قلت هذه ألمع وأشد شراقة من هذه لكان فاسداً، وقوله {مقيلاً} ذهب ابن عباس والنخعي وابن جريج إلى أن حساب الخلق يكمل في وقت ارتفاع النهار، ويقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار فالمقيل من القائلة.
قال الفقيه الإمام القاضي: ويحتمل أن اللفظة إنما تضمنت تفضيل الجنة جملة، فالعرب تفضل البلاد بحسن المقيل لأن وقت القائلة يبدو فساد هواء البلاد، فإذا كان بلد في وقت فساد الهواء حسناً جاز الفضل ومن ذلك قول الأسود بن يعفر الإيادي: [الكامل]
أرض تخيرها لطيب مقيلها *** كعب بن مامة وابن أم دواد
وقوله {ويوم تشقق السماء بالغمام} يريد يوم القيامة عن انفطار السماء ونزول الملائكة ووقوع الجزاء بحقيقة الحساب، وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر {تشّقّق} بشد الشين والقاف، وقرأ الباقون بتخفيف الشين، وقوله {بالغمام} أي يشقق عنه، والغمام سحاب رقيق أبيض جميل لم يره البشر بعد إلا ما جاء في تظليل بني إسرائيل، وقرأ جمهور القراء {ونُزِّل الملائكة} بضم النون وشدّ الزاي المكسورة ورفع {الملائكةُ} على مفعول لم يسم فاعله، وقرأ أبو عمرو في رواية عبد الوهاب {ونزِل} بتخفيف الزاي المكسورة، قال أبو الفتح وهذا غير معروف لأن {نزل} لا يتعدى إلى مفعول فيبنى هنا {للملائكة}، ووجهه أن يكون مثل زكم الرجل وجن فإنه لا يقال إلا أزكمه الله وأجنه وهذا باب سماع لا قياس، وقرأ أبو رجاء {ونَزّل الملائكة} بفتح النون وشدّ الزاي وقرأ الأعمش، {وأنزل الملائكة} وكذلك قرأ ابن مسعود، وقرأ أبي بن كعب {ونزلت الملائكة}، وقرأ ابن كثير وحده {وننزل الملائكة} بنونين وهي قراءة أهل مكة، فرويت عن أبي عمرو {ونزل الملائكةُ} بإسناد الفعل إليها، وقرأت فرقة {وتنزل الملائكة}، وقرأ أبي بن كعب أيضاً {وتنزلت الملائكة} ثم قرّر أن {الملك الحق هو يومئذ للرحمن}، إذ قد بطل في ذلك اليوم كل ملك وعسره {على الكافرين} توجه بدخول النار عليهم فيه وما في خلال ذلك من المخاوف، وقوله {على الكافرين}، دليله أن ذلك اليوم سهل على المؤمنين وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله ليهون القيامة على المؤمنين حتى أخف عليهم من صلاة مكتوبة صلوها».


قوله {ويوم} ظرف العامل فيه فعل مضمر، وعض اليدين هو فعل النادم الملهوف المتفجّع، وقال ابن عباس وجماعة من المفسرين {الظالم} في هذه الآية عقبة بن أبي معيط ذلك أنه كان أسلم أو جنح إلى الإسلام وكان أبي بن خلف الذي قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده يوم أحد {خليلاً} لعقبة فنهاه عن الإسلام فقبل نهيه فنزلت الآية فيهما ف {الظالم} عقبة. وفلان أبي وفي بعض الروايات عن ابن عباس أن {الظالم} أبي فإنه كان يحضر النبي صلى الله عليه وسلم فنهاه عقبة فأطاعه.
قال الفقيه الإمام القاضي: ومن أدخل في هذه الآية أمية بن خلف فقد وهم إلا على قول من يرى {الظالم} اسم جنس، وقال مجاهد وأبو رجاء الظالم اسم جنس وفلان الشيطان.
قال الفقيه الإمام القاضي: ويظهر أن {الظالم} عام وأن مقصد الآية تعظيم يوم القيامة وذكر هوله بأنه يوم تندم فيه الظلمة وتتمنى أن لو لم تطع في دنياها خلانها الذي أمروهم بالظلم، فلما كان خليل كل ظالم غير خليل الآخر وكان كل ظالم يسمي رجلاً خاصاً به عبر عن ذلك ب فلان الذي فيه الشياع التام ومعناه واحد من الناس، وليس من ظالم إلا وله في دنياه خليل يعينه ويحرضه، هذا في الأغلب ويشبه أن سبب الآية وترتب هذا المعنى كان عقبة وأبياً، وقوله {مع الرسول} يقوي ذلك بأن يجعل تعريف {الرسول} للعهد والإشارة إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى التأويل الأول التعريف بالجنس، وكلهم قرأ {يا ليتني} ساكنة الياء غير أبي عمرو فإنه حرك الياء في {ليتني اتخذت} ورواها أبو خليد عن نافع مثل أبي عمرو، والسبيل المتمناة هي طريق الآخرة، وفي هذه الآية لكل ذي نهية تنبيه على تجنب قرين السوء، والأحاديث والحكم في هذا الباب كثيرة مشهورة، وقوله {يا ويلتى} التاء فيه عوض من الياء في يا ويلي والألف هي التي في قولهم يا غلاماً وهي لغة، وقرأت فرقة بإمالة {يا ويلتى} يال أبو علي وترك الإمالة أحسن لأن أصل هذه اللفظة الياء {يا ويلتى} فبدلت الكسرة فتحة والياء ألفاً فراراً من الياء، فمن أمال رجع إلى الذي فر منه أولاً، و{الذكر}، هو ما ذكر به الإنسان أمر آخرته من قرآن أو موعظة ونحوه، وقوله: {وكان الشيطان للإنسان خذولاً} يحتمل أن يكون من قول {الظالم} ويحتمل أن يكون ابتداء إخبار من الله تعالىعلى جهة الدلالة على وجه ضلالتهم والتحذير من الشيطان الذي بلغهم ذلك المبلغ، وقوله تعالى: {وقال الرسول}، حكاية عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، في الدنيا وتشكيه ما يلقى من قومه، هذا قول الجمهور، وهو الظاهر، وقالت فرقة هو حكاية عن قوله ذلك في الآخرة، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو {قومي} بتحريك الياء والباقون بسكونها، و{مهجوراً} يحتمل أن يريد مبعداً مقصياً من الهَجر بفتح الهاء وهذا قول ابن زيد، ويحتمل أن يريد مقولاً فيه الهُجر بضم الهاء إشارة إلى قولهم شعر وكهانة وسحر وهذا قول مجاهد وإبراهيم النخعي.
قال القاضي أبو محمد: وقول ابن زيد منبه للمؤمنين على ملازمة المصحف وأن لا يكون الغبار يعلوه في البيوت ويشتغل بغيره، وروى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «من علق مصحفاً ولم يتعاهده جاء يوم القيامة متعلقاً به يقول هذا اتخذني {مهجوراً} إفصل يا رب بيني وبينه»، ثم سلاه عن فعل قومه بأن أعلمه أن غيره من الرسل كذلك امتحن بأعداء في زمنه، أي فاصبر كما صبروا و{عدواً} يراد به الجمع، تقول هؤلاء عدو لي فتصف به الجمع والواحد والمؤنث ثم وعده تعلق بقوله: {وكفى بربك هادياً ونصيراً} والباء في {بربك} للتأكيد على الأمر إذ المعنى اكتف بربك.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7